الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
المسألة الثامنة:قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْهَدْيُ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا، فَأَمَا هدي التَّطَوُّعِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ، وَأَمَا الْهَدْيُ الْوَاجِبُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ أَقْوَالٌ، أُصُولُهَا ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: لَا يَأْكُلُ مِنْهُ بِحَالٍ؛ قالهُ الشَّافِعِيُّ.الثَّانِي: أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ والقران، وَلَا يَأْكُلُ مِنْ الْوَاجِبِ بِحُكْمِ الْإِحْرَامِ قال أَبُو حَنِيفَةَ.الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ الْوَاجِبِ كُلِّهِ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: جَزَاءُ الصَّيْدِ، وَفِدْيَةُ الْأَذَى، وَنَذْرُ الْمَسَاكِينِ.وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إخْرَاجُهُ مِنْ مَالِهِ، فَكَيْفَ يَأْكُلُ مِنْهُ؟ وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَا وَجَبَ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ الْتَحَقَ بِجَزَاءِ الصَّيْدِ.وَتَعَلَّقَ مَالِكٌ بِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمَسَاكِينِ بِقوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ}، وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ، وَقال فِي فِدْيَةِ الْأَذَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}.وَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي فِدْيَةِ الْأَذَى: «وَأَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُدَّيْنِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ»، وَنَذْرُ الْمَسَاكِينِ مُصَرَّحٌ بِهِ، وَأَمَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْهَدَايَا فَهُوَ عَلَى أَصْلِ قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}.وَهذا نَصٌّ فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ بُدْنَهُ، وَأَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ، فَطَبَخَهَا وَأَكَلَ مِنْهَا، وَشَرِبَ مِنْ مَرَقِهَا، وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ وَاجِبًا، وَهُوَ دَمُ القران الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي حَجِّهِ».وَإِنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ تعالى فِي الْأَكْلِ لَأَجْلِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَرَى أَنْ تَأْكُلَ مِنْ نُسُكِهَا، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِمُخَالَفَتِهِمْ، فَلَا جَرَمَ كَذَلِكَ شُرِعَ وَبَلَّغَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ حِينَ أَهْدَى وَأَحْرَمَ.وما تَعَلَّقَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ غَيْرُ صَحِيحٍ.فَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحَظْرِ، وَإِنَّمَا هو دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا.المسألة التاسعة:اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِ قوله تعالى: {فَكُلُوا}، {وَأَطْعِمُوا} عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:الْأَوَّلُ: أَنَّهُمَا وَاجِبَانِ قالهُ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ أَبِي ثَعْلَبَةَ.الثَّانِي: أَنَّهُمَا مُسْتَحَبَّانِ قالهُ ابْنُ شُرَيْحٍ.الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَكْلَ مُسْتَحَبٌّ، وَالْإِطْعَامَ وَاجِبٌ؛ قالهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِ مَالِكٍ؛ فَأَمَا مَنْ قال: إنَّهُمَا وَاجِبَانِ فَتَعَلَّقَ بِظَاهِرِ الْقَوْلِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَفِيهِ غَرِيبَةٌ مِنْ الْفِقْهِ لَمْ تَقَعْ لِي، مُذْ قرأت الْعِلْمَ، لَهَا نَظِيرٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: إنَّهُمَا جَمِيعًا يُتْرَكَانِ؛ لِأَنَّهُمَا مُسْتَحَبَّانِ لَمْ يُتَصَوَّرْ شَرْعًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ إلَّا إتْلَافُهَا، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَلَا يَصِحُّ اسْتِحْبَابُهُمَا مَعًا؛ وَإِنَّمَا يُقال أَحَدُهُمَا وَاجِبٌ عَلَى الْبَدَلِ، أَوْ يُقال الْأَكْلُ مُسْتَحَبٌّ، وَالْإِطْعَامُ وَاجِبٌ، كَمَا قال مَالِكٌ.وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْأَكْلَ وَاجِبٌ، وَقَدْ احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا بِأَمْثِلَةٍ وَرَدَتْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ أَمْرٌ بِدَلِيلٍ لَا يَسْقُطُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.المسألة العاشرة:إذَا أَكَلَ مِنْ لَحْمِ الْهَدْيِ الَّذِي لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، فَفِيهِ لِعُلَمَائِنَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا وَقَعَ فِي الْمَدِينَةِ أَنَّهُ إنْ كَانَ جَهْلٌ فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.قال مَالِكٌ: وَقَدْ كَانَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يقولونَ: يَأْكُلُ مِنْهُ.وَقال فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِنَا: إنَّهُ إذَا أَكَلَ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْ فِدْيَةِ الْأَذَى بَعْدَ أَنْ بَلَغَ مَحَلَّتَهُ غَرِمَ.وماذَا يَغْرَمُ؟ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُ الْهَدْيَ كُلَّهُ؛ قالهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ.الثَّانِي: لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا غُرْمُ قَدْرِ مَا أَكَلَ، وَهذا هو الْحَقُّ، لَا شَيْءَ غَيْرُهُ.وَكَذَا لَوْ نَذَرَ هَدْيَ الْمَسَاكِينِ، فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ مَحِلَّهُ لَا يَغْرَمُ إلَّا مَا أَكَلَ، خِلَافًا لِلْمُدَوِّنَةِ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدِي مَا ذَكَرْته لَكُمْ، إذْ النَّحْرُ قَدْ وَقَعَ، وَالتَّعَدِّي إنَّمَا هو فِي اللَّحْمِ، فَيَغْرَمُ بِقَدْرِ مَا تَعَدَّى فِيهِ.وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا يَغْرَمُ وَهِيَ:المسألة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:فَقال بَعْضُ عُلَمَائِنَا: إنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَةَ اللَّحْمِ.وَقال فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَابْنِ حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ: إنَّهُ يَغْرَمُهُ طَعَامًا.وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ إنَّمَا هو فِي مُقَابَلَةِ الْهَدْيِ كُلِّهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ عِبَادَةً، وَلَيْسَ حُكْمُ التَّعَدِّي حُكْمَ الْعِبَادَةِ، فَأَمَا إذَا عَطِبَ الْوَاجِبُ كُلُّهُ قَبْلَ مَحَلِّهِ فَلِيَأْكُلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ بَدَلَهُ، وَهِيَ:المسألة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ:فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَعَطِبَ قَبْلَ مَحَلِّهِ لَمْ يَأْكُلْ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ أَنْ يَكُونَ أَسْرَعَ بِهِ لِيَأْكُلَهُ، وَهذا مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَهِيَ:المسألة الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:.....................................المسألة الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:الْقَانِعَ.وَالْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: {الْمُعْتَرَّ} وَفِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قال ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ: {الْقَانِعُ} الْفَقِيرُ، {وَالْمُعْتَرُّ} الزَّائِرُ.الثَّانِي: قال ابْنُ وَهْبٍ، وَعُقْبَةُ: السَّائِلُ، وَقالهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ.الثَّالِثُ: {الْمُعْتَرُّ} الَّذِي يَعْتريك؛ قالهُ مُجَاهِدٌ، و{الْقَانِعُ} الْجَالِسُ فِي بَيْتِهِ؛ قالهُ مُجَاهِدٌ.الرَّابِعُ: {الْقَانِعُ} الَّذِي يَرْضَى بِالْقَلِيلِ. {وَالْمُعْتَرُّ} الَّذِي يَمُرُّ بِك وَلَا يُبَايِتُكَ؛ قالهُ الْقُرْطُبِيُّ.الْخَامِسُ: الَّذِي يَقْنَعُ هُوَ الْمُتَعَفِّفُ، {وَالْمُعْتَرُّ} السَّائِلُ.المسألة السَّادِسَةَ عَشْرَةَ:هَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ، فَأَمَا الْقَانِعُ فَفِعْلُهُ قَنَعَ يَقْنَعُ، وَلَهُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا الَّذِي يَرْضَى بِمَا عِنْدَهُ.وَالثَّانِي: الَّذِي يُذَلُّ، وَكِلَاهُمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْفَقِيرِ، فَإِنَّهُ ذَلِيلٌ.فَإِنْ وَقَفَ عِنْدَ رِزْقِهِ فَهُوَ قَانِعٌ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ فَهُوَ مُلْحِفٌ.وَأَمَا {الْمُعْتَرُّ} وَالْمُعْترى فَهُمَا مُتَقَارِبَانِ مَعْنًى، مَعَ افْتِرَاقِهِمَا اشْتِقَاقًا، فَالْمُعْتَرُّ مُضَاعَفٌ، وَالْمُعْترى مُعْتَلُّ اللَّامِ، وَمِنْ النَّادِرِ فِي الْعَرَبِيَّةِ كَوْنُهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ قال الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: وَشَيْبَةُ فِيهِمْ وَالْوَلِيدُ وَمِنْهُمْ أُمَيَّةُ مَاوَى الْمُعْترىنَ وَذِي الرَّحَلِ يُرِيدُ بِالْمُعْترىنَ مَنْ يُقِيمُ لِلزِّيَارَةِ، وَذُو الرَّحْلِ مَنْ يَمُرُّ بِك فَتُضَيِّفُهُ.وَقال زُهَيْرٌ: عَلَى مُكْثِرِيهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتريهمْ وَعِنْدَ الْمُقِلِّينَ السَّمَاحَةُ وَالْبَذْلُ وَيُعَضِّدُ هذا قوله تعالى: {إنْ نَقُولُ إلَّا اعْتَرَاك بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} يُرِيدُ نَزَلَ بِك؛ فَهذا كُلُّهُ فِي الْمُعْتَلِّ.وَأَمَا مَا وَرَدَ فِي الْمُضَاعَفِ، فَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَقال الْكُمَيْتُ: وَقال آخَرُ: قال الْقَاضِي الْإِمَامُ: وَاَلَّذِي عِنْدِي فِيهِ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا مُتَقَارِبٌ كَتَقَارُبِ مَعْنَى الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ.وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْأَكْلِ وَإِطْعَامِ الْفَقِيرِ.وَالْفَقِيرُ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُلَازِمٌ لَك، ومارٌّ بِك، فَأَذِنَ اللَّهُ فِي إطْعَامِ الْكُلِّ مِنْهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ حالهما، وَمِنْ هَاهُنَا وَهِمَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ، فَقال وَهِيَ:المسألة السَّابِعَةَ عَشْرَةَ:إنَّ {الْقَانِعَ} هُوَ جَارُك الْغَنِيُّ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ وَجْهٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ.المسألة الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ:قال بَعْضُهُمْ: إنَّ الْهَدْيَ يُقَسَّمُ أَثْلَاثًا: قِسْمٌ يَأْكُلُهُ صَاحِبُهُ، وَقِسْمٌ يَأْخُذُهُ الْقَانِعُ، وَقِسْمٌ يَأْخُذُهُ الْمُعْتَرُّ، وَإِنَّمَا يُقَسَّمُ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَأْخُذُهُ الْآكِلُ، وَقِسْمٌ يَأْخُذُهُ الْقَانِعُ وَالْمُعْتَرُّ؛ وَلِهذا قال ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: لَيْسَ عِنْدَنَا فِي الضَّحَايَا قِسْمٌ مَعْلُومٌ مَوْصُوفٌ.قال مَالِكٌ فِي حديثهِ: بَلَغَنِي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ شَيْءٌ لَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَنَا، وَهُوَ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ: قِسْمَتُهَا أَثْلَاثًا.وَقَدْ قال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِيُجَزَّأَ أَثْلَاثًا؛ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ هذا التَّقْدِيرَ لَيْسَ بِأَصْلٍ يُرْجَعُ إلَيْهِ.وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ثَوْبَانَ: «ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ ثُمَّ قال لِي: أَصْلِحْ لَحْمَهَا، فَمَا زَالَ يَأْكُلُ مِنْهُ، حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ صَدَقَةً».وَهذا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ.قوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:المسألة الأولى:قوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ} مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَةِ؛ فَإِنَّ النَّيْلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَارِئِ سُبْحَانَهُ، وَلَكِن عَبَّرَ بِهِ تَعْبِيرًا مَجَازِيًّا عَنْ الْقَبُولِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا نَالَ الإنسان مُوَافِقٌ أَوْ مُخَالِفٌ؛ فَإِنْ نَالَهُ مُوَافِقٌ قَبِلَهُ، أَوْ مُخَالِفٌ كَرِهَهُ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَفْعَالِ بَدَنِيَّةً كَانَتْ أَوْ مَالِيَّةً بِالْإضافة إلَى اللَّهِ تعالى؛ إذْ لَا يُخْتَلَفُ فِي حَقِّهِ إلَّا بِمُقْتَضَى نَهْيِهِ وَأَمْرِهِ، وَإِنَّمَا مَرَاتِبُهَا الْإِخْلَاصُ فِيهَا وَالتَّقْوَى مِنْهَا.وَلِذَلِكَ قال: لَنْ يَصِلَ إلَى اللَّهِ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا، وَإِنَّمَا يَصِلُ إلَيْهِ التَّقْوَى مِنْكُمْ، فَيَقْبَلُهُ وَيَرْفَعُهُ إلَيْهِ وَيَسْمَعُهُ.المسألة الثَّانِيَةُ:قوله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} امْتَنَّ عَلَيْنَا سُبْحَانَهُ بِتَذْلِيلِهَا لَنَا وَتَمْكِينِنَا مِنْ تَصْرِيفِهَا، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنَّا أَبْدَانًا، وَأَقْوَى أَعْضَاءً، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْعَبْدُ أَنَّ الأمور لَيْسَتْ عَلَى مَا تَظْهَرُ إلَى الْعَبْدِ مِنْ التَّدْبِيرِ وَإِنَّمَا هي بِحَسَبِ مَا يُدَبِّرُهَا الْعَزِيزُ الْقَدِيرُ، فَيَغْلِبُ الصَّغِيرُ الْكَبِيرَ، لِيَعْلَمَ الْخَلْقُ أَنَّ الْغَالِبَ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ.المسألة الثَّالِثَةُ:قوله تعالى: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هدَاكُمْ} ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتعالى اسْمَهُ عَلَيْهَا فِي الآية قَبْلَهَا فَقال: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ}، وَذَكَرَ هَاهُنَا التَّكْبِيرَ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْمَعُ بَيْنَهَا إذَا نَحَرَ هَدْيَهُ، فَيقول: بِسْمِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. وَهذا مِنْ فِقْهِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.وَقَدْ قال قَوْمٌ: التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الذَّبْحِ وَالتَّكْبِيرُ عِنْدَ الْإِحْلَالِ بَدَلًا مِنْ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَفِعْلُ ابْنِ عُمَرَ أَفْقَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ. .قال الماوردي: قوله عز وجل: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ}.في البدن ثلاثة أقاويل:أحدها: أنها الإِبل، وهو قول الجمهور.والثاني: أنها الإِبل، والبقر، والغنم، وهو قول جابر، وعطاء.والثالث: كل ذات خُفٍّ وحافر من الإِبل، والبقر، والغنم، وهو شاذ حكاه ابن الشجرة، وسميت بُدْنًا لأنها مبدنة في السمن، وشعائر الله تعالى دينه في أحد الوجهين، وفروضه في الوجه الآخر.وتعمق بعض أصحاب الخواطر فتأول البُدْن أن تطهر بدنك من البدع، والشعائر أن تستشعر بتقوى الله وطاعته، وهو بعيد.{لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} فيه تأويلان: أحدهما: أي أجر، وهو قول السدي.والثاني: منفعة فإن احْتِيجَ إلى ظهرها رُكبَ، وإن حُلِبَ لَبَنُها شُرِبَ، وهو قول إبراهيم النخعي.{فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوافَّ} وهي قراءة الجمهور، وقرأ الحسن: {صوافي} وقرأ ابن مسعود: {صوافن}.فتأول {صواف} على قراءة الجمهور فيه ثلاثة أوجه:أحدها: مصطفة، ذكره ابن عيسى.والثاني: قائمة لتصفّد يديها بالقيود، وهو قول ابن عمر.والثالث: معقولة، وهو قول مجاهد.وتأويل {صوافي} وهي قراءة الحسن: أي خالصة لله تعالى، مأخوذ من الصفوة.وتأويل {صوافن} وهي قراءة ابن مسعود: أنها مصفوفة، وهو أن تَعقِل إحدى يديها حتى تقف على ثلاث، مأخوذ من صفن الفرس إذا ثنى إحدى يديه حتى يقف على ثلاث، ومنه قوله تعالى: {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} وقال الشاعر:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبهُا} أي سقطت جنوبها على الأرض، ومنه وجب الحائط إذا سقط، ووجبت الشمس إذا سقطت للغروب، وقال أوس بن حجر: {فَكُلُواْ مِنْهَا} فيه وجهان:أحدهما: أن أكله منها واجب إذا تطوع بها، وهو قول أبي الطيب بن سلمة.والثاني: وهو قول الجمهور أنه استحباب وليس بواجب، وإنما ورد الأمر به لأنه بعد حظر، لأنهم كانواْ في الجاهلية يحرمون أكلها على نفوسهم.{وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ والْمُعْتَرَّ} فيهم أربعة تأويلات:أحدها: أن القانع السائل، والمعتر الذي يتعرض ولا يسأل، وهذا قول الحسن، وسعيد بن جبير، ومنه قول الشماخ: أي من السؤال.والثاني: أن القانع الذي يقنع ولا يسأل، والمعتر الذي يسأل، وهذا قول قتادة، ومنه قول زهير: والثالث: أن {القانع} المسكين الطوّاف، و{المعتر} الصديق الزائر، وهذا قول زيد بن أسلم، ومنه قول الكميت: والرابع: أن {القانع} الطامع، و{المعتر} الذي يعترى البُدْنَ ويتعرض للحم لأنه ليس عنده لحم، وهذا قول عكرمة، ومنه قول الشاعر: قوله عز وجل: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا} فيه وجهان:أحدهما: لن يقبل الله الدماء وإنما يقبل التقوى، وهذا قول علي بن عيسى.والثاني: معناه لن يصعد إلى الله لحومها ولا دماؤها، لأنهم كانوا في الجاهلية إذا ذبحوا بُدنهم استقبلوا الكعبة بدمائها فيضجعونها نحو البيت، فأراد المسلمون فعل ذلك، فأنزل الله تعالى: {لَنَ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُم} أي يصعد إليه التقوى والعمل الصالح، وهذا قول ابن عباس.{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} أي ذللها لكم يعني الأنعام.{لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هدَاكُمْ} يحتمل وجهين:أحدهما: يعني التسمية عند الذبح.والثاني: لتكبروا عند الإِحلال بدلًا من التلبية في الإِحرام.{عَلَى مَا هداكم} أي ما أرشدكم إليه من حجكم.{وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: بالقبول.والثاني: بالجنة. اهـ.
|